فن ومشاهير

محمد عبد الرحمن يكتب: بشير الديك.. ألم الواقع وأمل التغيير

محمد عبد الرحمن يكتب: بشير الديك.. ألم الواقع وأمل التغيير
القاهرة: «رأي الأمة»

ومع نهاية السبعينيات وبداية عصر ما بعد الانفتاح الاقتصادي، ظهر جيل جديد من المخرجين أطلق عليهم اسم مخرجي «السينما الواقعية»، مثل عاطف الطيب، وخيري بشارة، ومحمد خان، وداود عبد السيد. سينما قامت على التعبير عن العديد من القضايا والهموم الاجتماعية، وقضية الصراع الطبقي في… «المظاهر» سينما تقدم حلولاً واقعية للأزمات المجتمعية من خلال العمل الجماعي، وتتبنى أفكارًا أقرب إلى الفكر الاشتراكي الذي آمنوا به في أعمالهم الفنية والتعبير عنها.

ومن المؤكد أن هذه السينما الجديدة تحتاج إلى من يصوغ أفكارها كتابة، وتبحث عن لغة جديدة للتواصل مع جمهورها، وتحويل واقعهم الاجتماعي المؤلم إلى شخصيات وعوالم يمكن تقديمها سينمائيا. وكان من رجالات تلك الفترة السيناريست الكبير بشير الديك، وكان من أبرز من أعادوا صياغة اللغة السينمائية، لتصبح أكثر… قريبة وصادقة في تعبيرها عن الناس، السينما تعكس واقعاً. والتي قد تبدو مألوفة، بعيدة عن المشهد البصري أو تعقيد الحبكات، والتي قدم من خلالها وجهة نظره الخاصة حول العديد من المعاني الإنسانية.

منذ البداية كان الناس والبسطاء هم محور اهتمام بشير الديك في كتاباته الدرامية. استطاع أن يستنسخ خيوط الواقع، محاولاً رصد تفاصيل حياتهم البسيطة، المجتهدون في الحياة الذين يواجهون الصعوبات يومياً ولا يملكون الرفاهية. من المؤكد أن بشير الديك تأثر بفترة الحرب والتقلبات المجتمعية في هذه الفترة. وقدم فيلمه الروائي الأول «مع سبق الإصرار» (1979) الذي تحدث فيه عن الأوضاع المجتمعية في فترة ما بعد الحرب وتأثيرها الاقتصادي. لقد جاءت وكأنها تجربة ذاتية ممزوجة بالواقع. كان بمثابة مرآة حقيقية لواقع أليم، ونموذج لصورة فنية ملهمة، وانطلاقة لكاتب امتلك مفردات جديدة لصياغة لغة سينمائية متوافقة مع الواقع الاجتماعي.

لكن البداية الحقيقية والنقلة الكبيرة في مسيرة الديك كانت بعد أن كتب فيلم «سائق الحافلة» (1982) مع المخرج عاطف الطيب، وشكل الاثنان ثنائياً فنياً رائعاً استطاع صياغة فيلم سينمائي. صورة للمجتمع بلغة جديدة، وصورة أشبه بالواقع، صورة تخفي في تفاصيلها مأساة أعظم. مأساة مجتمع بأكمله، وأبرز ما يميز تلك القصة لم تكن حبكتها فحسب، بل قدرتها على التعمق في التحولات الاجتماعية التي اجتاحت مصر خلال تلك الفترة، مما يمثل انفتاحًا استهلاكيًا شديد الأهمية، وهو ما شكل إمبراطورية من اللصوص، وتسبب في تراجع أوضاع الطبقة الوسطى.

وفي عام 1983، قدم بشير الديك والمخرج محمد خان تجربة مهمة في مسيرتهما، بالتعاون مع الزعيم عادل إمام، من خلال فيلم “الحريف” الذي كان بمثابة شكل من أشكال تشكيل وعي الجيل الجديد من الواقعية. مخرجون، يتبنون أفكارا فلسفية ذات نزعة ماركسية تعبر عن مفهوم “اغتراب العمل”. “اجتماعي” إذ رأى ماركس أن الإنسان ينسلخ عن نفسه وعن نشاطه الإنتاجي الإبداعي في العمل الاجتماعي عندما ينتج السلعة. فهو ينفصل عن نفسه وعن إنتاجه بعد إتمام عملية الإنتاج بسبب علاقات الإنتاج الرأسمالية. باختصار، نجح بشير الديك في إغراقنا داخل شوارع مصر، والتجول في أزقتها، وتصوير الصراع المحتدم والواقع المؤلم الذي يعيشه الناس وهم يحاولون الوصول إلى بر الأمان.

ومع دخول التسعينيات، كان عاطف الطيب وبشير الديك قد وصلا إلى مرحلة النضج، وبدأا في الاصطدام أكثر فأكثر بالواقع. قدموا معًا «ضد الحكومة» (1992) التي كانت تجسيدًا للأمل والألم، ومحاكمة علنية للنظام الاجتماعي والسياسي، محاكمة جريئة قدمت من خلال نص البشير، الذي واجه السلطات بمباشرة غير مسبوقة. معتمداً على رواية واقعية جداً من خلال حوادث الطرق والقطارات التي يتعرض لها المواطنون يومياً، مع تقديم إدانة واضحة للقوانين والإجراءات الحكومية الروتينية، التي كثيراً ما تفقد الإنسان إنسانيته.

وفي تلك الفترة قدم بشير الديك مع عاطف الطيب ونور الشريف فيلم «ناجي العلي» (1993). ورغم أن الفيلم يقدم معالجة لقصة أحد رواد فن الكاريكاتير الصاخب في الوطن العربي، الفنان الذي اغتيل بسبب انتقاده للاحتلال والمقاومة المستأنسة، إلا أنهم أيضاً لم يبتعدوا عن الواقع الذي ارتبط به اجتماعيا وسياسيا. ولم يكن غير ناجي العلي صورة مواطن غاضب من المشهد السياسي وفساد السلطة، منتقداً كراهية السلطة للنقد وحصارها للحريات، وهي إهانة لا تقتصر على منظمة التحرير الفلسطينية بالطبع.

بشكل عام، كانت سينما بشير الديك مليئة بالأسئلة، محاولاً البحث عن منافذ جديدة لفهم العالم، من خلال إعادة صياغة البسطاء والعاملين في واقعهم اليومي القاسي. ونواجه في أعماله مجموعة من الشخصيات المهمشة، بوظائف مختلفة، كالسائق، والموظف، والمختلس، والقواد، بأسلوب كاريكاتيري. بصوت عالٍ، لتحقيق الانسجام بين شكل الشخصية ومضمونها، وربما في كثير من أعماله، خاصة في الثمانينيات والتسعينيات، تغرق في البؤس وتشعر بعدم معنى الحياة وعبثيتها، تحاول خلال كتاباته التي هو الأقرب إلى رواية «استعادة المعنى المفقود»، فهو يستخدم آليات دفاعية مختلفة عن هؤلاء البسطاء، رغم أنه كان ينزعج في بعضهم من أحلام اليقظة التي يعبر فيها عن رغبات مكبوتة، محاولاً التخفيف من ثقل الواقع المؤلم.

وفي النهاية، وفي كل أعماله السينمائية والتلفزيونية، كان بشير الديك دائماً أكثر حساسية وعمقاً في تقديم حياة البسطاء والمهمشين. استطاع أن يعبر عنهم ويرسم حياتهم بمنتهى الصدق والواقعية، وأن يظل، في كل لحظة من حياته، مخلصاً للكتابة المتفردة عنهم وعن واقعهم، من خلال أعمال تطرح الأسئلة. التغيير والفقر والقاع الاجتماعي والمرأة والحياة والموت، وغيرها من المشاكل الوجودية والقضايا الأخلاقية التي عانى منها المجتمع المصري، بالتنقيب في عوالمه والغوص فيها، والأهم من ذلك أن الديك عاش دائما مثل أبطاله، وكأنه هو كان أحد أبطال قصصه، رجلاً بسيطاً يحمل في صمته قصصاً أكثر مما يستطيع أن يرويها، يشبه كل من كتب عنه. وجهه الحنون، ونظرته التي جعلتك تشعر أنه يعرف عنك أكثر مما كنت تعتقد، كلها كانت انعكاسًا لروح الإنسان الذي عاش بين الناس ولم يتركهم أبدًا.

للمزيد : تابعنا هنا ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر .

مصدر المعلومات والصور: youm7

 


اكتشاف المزيد من رأي الأمة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من رأي الأمة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading